فصل: فصل: صلاة الجماعة دل عليه الكتاب والسنة وأقوال الصحابة على وجوبها

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


/ فصل

وإذا ترك الجماعة من غير عذر، ففيه قولان في مذهب أحمد وغيره‏:‏

أحدهما‏:‏ تصح صلاته؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏تفضل صلاة الرجل في الجماعة على صلاته وحده بخمس وعشرين درجة‏)‏‏.‏

والثاني‏:‏ لا تصح، لما في السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏من سمع النداء ثم لم يجب من غير عذر فلا صلاة له‏)‏‏.‏ ولقوله‏:‏ ‏(‏لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد‏)‏، وقد قواه عبد الحق الإشبيلي‏.‏

وأيضًا، فإذا كانت واجبة، فمن ترك واجبًا في الصلاة، لم تصح صلاته‏.‏

وحديث التفضيل محمول على حال العذر‏.‏ كما في قوله‏:‏ ‏(‏صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم، وصلاة النائم على النصف من صلاة / القاعد‏)‏‏.‏ وهذا عام في الفرض والنفل‏.‏

والإنسان ليس له أن يصلي الفرض قاعدًا أو نائمًا، إلا في حال العذر، وليس له أن يتطوع نائمًا عند جماهير السلف، والخلف، إلا وجهًا في مذهب الشافعي وأحمد‏.‏

ومعلوم أن التطـوع بالصـلاة مضطجعًا بـدعة، لم يفعلها أحـد مـن السلف، وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إذا مرض العبد أو سافر، كتب له من العمل ما كان يعمل وهو صحيح مقيم‏)‏، يدل على أنه يكتب لـه لأجـل نيتـه، وإن كان لا يعمل عادته قبل المرض والسفر فهذا يقتضي أن مـن ترك الجماعة لمرض أو سفر وكان يعتادها، كتب له أجر الجماعة‏.‏ وإن لم يكـن يعتادها، لم يكـن يكتب لـه‏.‏ وإن كـان في الحالين إن ما له بنفس الفعل صلاة منفـرد‏.‏ وكـذلك المريض إذا صلى قاعـدًا أو مضطجعًا‏.‏ وعلى هذا القول، فإذا صلى الرجـل وحده وأمكنه أن يصلي بعد ذلك في جماعة فعل ذلك، وإن لم يمكنه فعل الجماعـة، استغفـر الله، كمن فاتته الجمعة وصلي ظهرًا، وإن قصد الرجل الجماعة ووجـدهم قـد صلـوا كان لـه أجـر من صلى في الجماعـة، كما وردت بـه السـنة عـن النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

وإذا أدرك مع الإمام ركعة، فقد أدرك الجماعة، وإن أدرك أقل / من ركعة، فله بنيته أجر الجماعة، ولكن هل يكون مدركًا للجماعة أو يكون بمنزلة من صلى وحده‏؟‏ فيه قولان للعلماء في مذهب الشافعي وأحمد‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه يكون كمن صلى في جماعة، كقول أبي حنيفة‏.‏

والثاني‏:‏ يكون كمن صلى منفردًا، كقول مالك، وهذا أصح، لما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنـه قـال‏:‏ ‏(‏من أدرك ركعة من الصلاة، فقد أدرك الصلاة‏)‏، ولهذا قال الشافعي وأحمد ومالك وجمهور العلماء‏:‏ إنه لا يكـون مدركًا للجمعـة إلا بـإدراك ركعة من الصلاة، ولكن أبو حنيفة ومن وافقه يقولون‏:‏ إنه يكون مدركًا لها إذا أدركهم في التشهد‏.‏

ومن فوائد النزاع في ذلك‏:‏ أن المسافر إذا صلى خلف المقيم أتم الصلاة إذا أدرك ركعة، فإن أدرك أقل من ركعة فعلى القولين المتقدمين‏.‏

والصحيح أنه لا يكون مدركًا للجمعة ولا للجماعة إلا بإدراك ركعة، وما دون ذلك لا يعتد له به، وإنما يفعله متابعة للإمام، ولو بعد السلام، كالمنفرد باتفاق الأئمة‏.‏

/وقال شيخ الإسلام ـ قدس الله روحه‏:‏

 فصل

فأما صلاة الجماعة، فاتبع ما دل عليه الكتاب والسنة، وأقوال الصحابة من وجوبها، مع عدم العذر، وسقوطها بالعذر‏.‏

وتقديم الأئمة بما قدم به النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال‏:‏ ‏(‏يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله‏.‏ فإن كانوا في القراءة سواء، فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء، فأقدمهم هجرة‏)‏‏.‏ فيفرق بين العلم بالكتاب، أو العلم بالسنة، كما دل عليه الحديث‏.‏ وإنما يكون ترجيح بعض الأئمة على بعض إذا استووا في المعرفة بإقام الصلاة على الوجه المشروع،وفعلها على السنة، وفي دين الإمام الذي يخرج به المأموم عن نقص الصلاة خلفه‏.‏ فإذا استويا في كمال الصلاة منهما وخلفهما، قدم الأقرأ، ثم الأعلم بالسنة، وإلا ففضل الصلاة في نفسها مقدم على صفة إمامها، وما يحتاج إليه من العلم والدين فيها مقدم على ما يستحب من ذلك‏.‏

/وغيره قد يقول هي سنة مؤكدة‏.‏ وقد يقول هي فرض على الكفاية‏.‏

ولهم في تقديم الأئمة خلاف، ويأمرهم بإقامة الصفوف فيها، كما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم من سننها الخمس‏:‏ وهي تقويم الصفوف، ورصها، وتقاربها، وسد الأول فالأول، وتوسيط الإمام حتى ينهيىعما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم من صلاة المنفرد خلف الصف، ويأمره بالإعادة، كما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم في حديثين ثابتين عنه‏.‏ فإنه أمر المنفرد خلف الصف بالإعادة، كما أمر المسيء في صلاته بالإعادة، وكما أمر المسيء في وضوئه الذي ترك موضع ظفر من قدمه لم يمسه الماء بالإعادة، فهذه المواضع دلت على اشتراط الطهارة، والاصطفاف في الصلاة، والإتيان بأركانها‏.‏

والذين خالفوا حديث المنفرد خلف الصف كأبي حنيفة ومالك والشافعي، منهم من لم يبلغه، أو لم يثبت عنده‏.‏ والشافعي رآه معارضًا بكون الإمام يصلي وحده، وبكون مليكة ـ جدة أنس ـ صلت خلفهم، وبحديث أبي بكرة لما ركع دون الصف‏.‏

وأما أحمد، فأصله في الأحاديث إذا تعارضت في قضيتين متشابهتين غير متماثلتين، فإنه يستعمل كل حديث على وجهه، ولا يرد أحدهما / بالآخر‏.‏ فيقول في مثل هذه‏:‏ المرأة إذا كانت مع النساء، صلت بينهن‏.‏ وأما إذا كانت مع الرجال، لم تصل إلا خلفهم‏.‏ وإن كانت وحدها؛ لأنها منهية عن مصافة الرجال، فانفرادها عن الرجال أولى بها من مصافتهم، كما أنها إذا صلت بالنساء، صلت بينهن؛ لأنه أستر لها، كما يصلي إمام العراة بينهم‏.‏ وإن كانت سنة الرجل الكاسي إذا أمَّ أن يتقدم بين يدي الصف‏.‏

ونقول‏:‏ إن الإمام لا يشبه المأموم، فإن سنته التقدم لا المصافة، وسنة المؤتمين الاصطفاف‏.‏ نعم يدل انفراد الإمام والمرأة على جواز انفراد الرجل المأموم لحاجة، وهو ما إذا لم يحصل له مكان يصلي فيه إلا منفردًا، فهذا قياس قول أحمد وغيره، ولأن واجبات الصلاة وغيرها تسقط بالأعذار، فليس الاصطفاف إلا بعض واجباتها، فسقط بالعجز في الجماعة، كما يسقط غيره فيها، وفي متن الصلاة‏.‏

ولهذا كان تحصيل الجماعة في صلاة الخوف والمرض ونحوهما، مع استدبار القبلة، والعمل الكثير، ومفارقة الإمام، ومع ترك المريض القيام ـ أولى من أن يصلوا وحدانًا؛ ولهذا ذهب بعض أصحاب أحمد إلى أنه يجوز تقديم المؤتم على الإمام عند الحاجة، كحال الزحام ونحوه، وإن كان لا يجوز لغير حاجة، وقد روي في بعض صفات صلاة الخوف‏.‏

ولهذا سقط عنده وعند غيره من أئمة السنة ما يعتبر للجماعة من / عدل الإمام، وحل البقعة، ونحو ذلك للحاجة، فجوزوا، بل أوجبوا فعل صلوات الجمعة والعيدين والخوف والمناسك ونحو ذلك خلف الأئمة الفاجرين، وفي الأمكنة المغصوبة إذا أفضي ترك ذلك إلى ترك الجمعة والجماعة، أو إلى فتنة في الأمة، ونحو ذلك‏.‏ كما جاء في حديث جابر‏:‏ ‏(‏لا يؤمَّن فاجر مؤمنًا إلا أن يقهره سلطان يخاف سيفه، أو سوطـه‏)‏؛ لأن غاية ذلك أن يكـون عدل الإمام واجبًا، فيسقط بالعذر، كما سقط كثير من الواجبات في جماعة الخوف بالعذر‏.‏

ومن اهتدي لهذا الأصل‏.‏ وهو أن نفس واجبات الصلاة تسقط بالعذر، فكذلك الواجبات في الجماعات ونحوها، فقد هدي لما جاءت به السنة من التوسط بين إهمال بعض واجبات الشريعة رأسًا، كما قد يبتلي به بعضهم، وبين الإسراف في ذلك الواجب حتى يفضي إلى ترك غيره من الواجبات التي هي أوكد منه عند العجز عنه‏.‏ وإن كان ذلك الأوكد مقدورًا عليه، كما قد يبتلي به آخرون، فإن فعل المقدور عليه من ذلك دون المعجوز عنه هو الوسط بين الأمرين‏.‏

وعلى هذا الأصل تنبني مسائل الهجرة والعزم، التي هي أصل ‏[‏مسألة الإمامة‏]‏ بحيث لا يفعل ولا تسع القدرة، ولهذا كان أحمد في المنصوص عنه وطائفة من أصحابه يقول‏:‏ يجوز اقتداء المفترض بالمتنفل للحاجة، كما في صلاة الخوف‏.‏ وكما لو كان المفترض غير قارئ كما في / حديث عمرو بن سلمة، ومعاذ، ونحو ذلك‏.‏ وإن كان لا يجوزه لغير حاجة على إحدي الروايتين عنه‏.‏ فأما إذا جوزه مطلقًا، فلا كلام‏.‏ وإن كان من أصحابه من لا يجوزه بحال، فصارت الأقوال في مذهبه وغير مذهبه ثلاثة‏.‏ والمنع مطلقًا هو المشهور عن أبي حنيفة ومالك، كما أن الجواز مطلقًا هو قول الشافعي‏.‏

ويشبه هذا مفارقة المأموم إمامه قبل السلام، فعنه ثلاث روايات‏:‏

أوسطها‏:‏ جواز ذلك للحاجة، كما تفعل الطائفة الأولى في صلاة الخوف، وكما فعل الذي طول عليه معاذ صلاة العشاء الآخرة، لما شق عليه طول الصلاة‏.‏

والثانية‏:‏ المنع مطلقًا، كقول أبي حنيفة‏.‏

والثالثة‏:‏ الجواز مطلقًا،كقول الشافعي؛ ولهذا جوز أحمد على المشهور عنه أن تؤم المرأة الرجال لحاجة، مثل أن تكون قارئة، وهم غير قارئين فتصلي بهم التراويح، كما أذن النبي صلى الله عليه وسلم لأم ورقة أن تؤم أهل دارها، وجعل لها مؤذنًا وتتأخر خلفهم، وإن كانوا مأمومين بها للحاجة، وهو حجة لمن يجوز تقدم المأموم لحاجة‏.‏ هذا مع ما روي عنه صلى الله عليه وسلم من قوله‏:‏ ‏(‏لا تؤمن امرأة / رجلاً‏)‏، وأن المنع من إمامة المرأة بالرجال قول عامة العلماء‏.‏

ولهذا الأصل استعمل أحمد ما استفاض عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله في الإمام‏:‏ ‏(‏إذا صلى جالسًا

فصلوا جلوسًا أجمعون‏)‏، وأنه علل ذلك بأنه يشبه قيام الأعاجم بعضهم لبعض، فسقط عن المأمومين القيام لما في القيام من المفسدة التي أشار إليها النبي صلى الله عليه وسلم من مخالفة الإمام، والتشبه بالأعاجم في القيام له‏.‏ وكذلك عمل أئمة الصحابة بعده لما اعتلوا فصلوا قعودًا، والناس خلفهم قعود، كأسيد بن الحضير‏.‏ ولكن كره هذا لغير الإمام الراتب؛ إذ لا حاجة إلى نقص الصلاة في الائتمام به‏.‏ ولهذا كرهه ـ أيضًا ـ إذا مرض الإمام الراتب مرضًا مزمنًا؛ لأنه يتعين ـ حينئذ ـ انصرافه عن الإمامة، ولم ير هذا منسوخًا بكونه في مرضه صلى في أثناء الصلاة قاعدًا وهم قيام، لعدم المنافاة بين ما أمر به وبين ما فعله، ولأن الصحابة فعلوا ما أمر به بعد موته، مع شهودهم لفعله‏.‏

فيفرق بين القعود من أول الصلاة، والقعود في أثنائها، إذ يجوز الأمران جميعًا‏.‏ إذ ليس في الفعل تحريم للمأمور به بحال، مع ما في هذه المسائل من الكلام الدقيق الذي ليس هذا موضعه‏.‏

وإنما الغرض التنبيه على قواعد الشريعة التي تعرفها القلوب الصحيحة، / التي دل عليها قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ‏}‏ ‏[‏التغابن‏:‏ 16‏]‏، وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم‏)‏، وأنه إذا تعذر جمع الواجبين قدم أرجحهما، وسقط الآخر بالوجه الشرعي، والتنبيه على ضوابط من مآخذ العلماء ـ رضي الله عنهم‏.‏

وسئل عن أقوام يسمعون الداعي ولم يجيبوا‏؟‏ وفيهم من يصلي في بيته، وفيهم من لا تراه يصلي، ويراه جماعة من الناس، ولا يرونه بالصلاة، وحاله لم ترض الله ولا رسوله من جهة الصلاة وغيرها‏.‏ فهل يجوز لمن يراه في هذه الحالة أن يولي عنه أو يسلم عليه‏؟‏ أفتونا مأجورين‏.‏

 وأيضًا، هل يجوز لرجل إذا كان إمامًا في المسجد الذي هو فيه لم يصل فيه إلا نفران أو ثلاثة في بعض الأيام هو يصلي فيه احتسابًا‏؟‏ وأيضًا، إن كان يصلي فيه بأجرة لا ما يطلب الصلاة في غيره إلا لأجل فضل الجماعة، وهل يجوز ذلك‏؟‏ أفتونا ـ يرحمكم الله‏.‏

فأجاب‏:‏

الصلاة في الجماعات التي تقام في المساجد من شعائر الإسلام الظاهرة، وسنته الهادية‏.‏ كما في الصحيح عن ابن مسعود أنه قال‏:‏ إن هذه الصلوات الخمس في المسجد الذي تقام فيه الصلاة / من سنن الهدي، وإن الله شرع لنبيكم سنن الهدي، وإنكم لو صليتم في بيوتكم كما صلى هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتي به يهادي بين الرجال حتى يقام في الصف‏.‏

وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم أنطلق معي برجال معهم حزم من الحطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار‏)‏‏.‏ وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال‏:‏ أتي النبي صلى الله عليه وسلم رجل أعمي، فقال‏:‏ يا رسول الله، ليس لي قائد يقودني إلى المسجد‏.‏ فسأله أن يرخص له أن يصلي في بيته، فرخص له، فلما ولي دعاه فقال‏:‏ ‏(‏أتسمع النداء بالصلاة‏)‏‏؟‏ قال‏:‏ نعم، قال‏:‏ ‏(‏أجب‏)‏، وفي رواية في السنن‏:‏ قال‏:‏ ‏(‏أتسمع النداء‏؟‏‏)‏ قال‏:‏ نعم، قال‏:‏ ‏(‏لا أجد لك رخصة‏)‏‏.‏

وفي السنن عن ابن عباس قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من سمع النداء فلم يمنعه من اتباعه عذر‏)‏، قالوا‏:‏ ما العذر‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏خوف أو مرض، لم تقبل منه الصلاة التي صلي‏)‏‏.‏ رواه أبو داود‏.‏

وصلاة الجماعة من الأمور المؤكدة في الدين باتفاق المسلمين‏.‏/ وهي فرض على الأعيان عند أكثر السلف، وأئمة أهل الحديث، كأحمد وإسحاق، وغيرهما، وطائفة من أصحاب الشافعي، وغيرهم، وهي فرض على الكفاية عند طوائف من أصحاب الشافعي، وغيرهم، وهو المرجح عند أصحاب الشافعي‏.‏

والمصر على ترك الصلاة في الجماعة، رجل سوء ينكر عليه ويزجر على ذلك، بل يعاقب عليه، وترد شهادته‏.‏ وإن قيل‏:‏ إنها سنة مؤكدة‏.‏ وأما من كان معروفًا بالفسق مضيعًا للصلاة، فهذا داخل في قوله‏:‏ ‏{‏فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 59‏]‏، ويجب عقوبته على ذلك بما يدعوه إلى ترك المحرمات وفعل الواجبات‏.‏

ومن كان إمامًا راتبًا في مسجد، فصلاته فيه إذا لم تقم الجماعة إلا به أفضل من صلاته في غيره، وإن كان أكثر جماعة‏.‏

ومن عرف منه التظاهر بترك الواجبات، أو فعل المحرمات، فإنه يستحق أن يهجر، ولا يسلم عليه تعزيرًا له على ذلك، حتى يتوب‏.‏ والله ـ سبحانه ـ أعلم‏.‏

/ وسئل عن رجل يقتدى به في ترك صلاة الجماعة‏؟‏

فأجاب‏:‏

من اعتقد أن الصلاة في بيته أفضل من صلاة الجماعة في مساجد المسلمين، فهو ضال مبتدع باتفاق المسلمين؛ فإن صلاة الجماعة إما فرض على الأعيان، وإما فرض على الكفاية‏.‏

والأدلة من الكتاب والسنة أنها واجبة على الأعيان، ومن قال‏:‏ إنها سنة مؤكدة، ولم يوجبها، فإنه يذم من داوم على تركها، حتى أن من داوم على ترك السنن التي هي دون الجماعة، سقطت عدالته عندهم، ولم تقبل شهادته، فكيف بمن يداوم على ترك الجماعة‏؟‏ فإنه يؤمر بها باتفاق المسلمين، ويلام على تركها، فلا يمكن من حكم ولا شهادة ولا فتيا مع إصراره على ترك السنن الراتبة، التي هي دون الجماعة، فكيف بالجماعة التي هي أعظم شعائر الإسلام‏؟‏ والله أعلم‏.‏

/ وسئل عن رجل جار للمسجد، ولم يحضر مع الجماعة الصلاة ويحتج بدكانه‏.‏

فأجاب‏:‏

الحمد الله‏.‏ يؤمر بالصلاة مع المسلمين، فإن كان لا يصلي، فإنه يستتاب‏.‏ فإن تاب، وإلا قتل‏.‏ وإذا ظهر منه الإهمال للصلاة لم يقبل قوله‏:‏ إذا فرغت صليت، بل من ظهر كذبه لم يقبل قوله، ويلزم بما أمر الله به ورسوله‏.‏

 وسئل عن رجلين تنازعا في ‏[‏صلاة الفذ‏]‏ فقال أحدهما‏:‏ قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏صلاة الجماعة أفضل من صـلاة الفذ بخمس وعشرين‏)‏، وقال الآخر‏:‏ متي كانت الجماعة في غير مسجد، فهي كصلاة الفذ‏.‏

فأجاب‏:‏

ليست الجماعة كصلاة الفذ، بل الجماعة أفضل ولو كانت في غير المسجد، لكن تنازع العلماء فيمن صلى جماعة في بيته، هل / يسقط عنه حضور الجماعة في المسجد، أم لابد من حضور الجماعة في المسجد‏؟‏ والذي ينبغي له ألا يترك حضور الجماعة في المسجد إلا لعذر كما دلت على ذلك السنن والآثار‏.‏ والله أعلم‏.‏

 وسئل ـ رحمه الله تعالى ـ عن رجل أدرك آخر جماعة، وبعد هذه الجماعة جماعة أخري، فهل يستحب له متابعة هؤلاء في آخر الصلاة‏؟‏ أو ينتظر الجماعة الأخري‏؟‏

فأجاب‏:‏

أما إذا أدرك أقل من ركعة، فهذا مبني على أنه هل يكون مدركًا للجماعة بأقل من ركعة، أم لابد من إدراك ركعة‏؟‏ فمذهب أبي حنيفة‏:‏ أنه يكون مدركًا، وطرد قياسه في ذلك حتى قال في الجمعة‏:‏ يكون مدركًا لها بإدراك القعدة فيتمها جمعة‏.‏ ومذهب مالك‏:‏ أنه لا يكون مدركًا إلا بإدراك ركعة، وطرد المسألة في ذلك حتى فيمن أدرك من آخر الوقت‏.‏ فإن المواضع التي تذكر فيها هذه المسألة أنواع‏:‏

أحدها‏:‏ الجمعة‏.‏

والثاني‏:‏ فضل الجماعة‏.‏

/والثالث‏:‏ إدراك المسافر من صلاة المقيم‏.‏

والرابع‏:‏ إدراك بعض الصلاة قبل خروج الوقت، كإدراك بعض الفجر قبل طلوع الشمس‏.‏

والخامس‏:‏ إدراك آخر الوقت، كالحائض تطهر، والمجنون يفيق، والكافر يسلم في آخر الوقت‏.‏

والسادس‏:‏ إدراك ذلك من أول الوقت عند من يقول إن الوجوب بذلك، فإن في هذا الأصل السادس نزاعًا‏.‏ وأما مذهب الشافعي وأحمد فقالا في الجمعة بقول مالك؛ لاتفاق الصحابة على ذلك، فإنهم قالوا فيمن أدرك من الجمعة ركعة‏:‏ يصلي إليها أخري، ومن أدركهم في التشهد صلى أربعاً‏.‏

وأما سائر المسائل، ففيها نزاع في مذهب الشافعي وأحمد، وهما قولان للشافعي، وروايتان عن أحمد، وكثير من أصحابهما يرجح قول أبي حنيفة‏.‏

والأظهر هو مذهب مالك، كما ذكره الخِرْقي في بعض الصور، وذلك أنه قد ثبت في الصحيح عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏من أدرك ركعة من الصـلاة، فـقـد أدرك / الصـلاة‏)‏‏.‏ فهـذا نص عـام في جميع صور إدراك ركعة من الصـلاة، سـواء كان إدراك جماعة أو إدراك الوقت‏.‏ وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏مـن أدرك ركعـة مـن الفجر قبـل أن تطلع الشمس، فقـد أدرك الفجر، ومن أدرك ركعة مـن العصر قبـل أن تغـرب الشمس فقـد أدرك العصـر‏)‏‏.‏ وهذا نص في ركعة في الوقت‏.‏

وقد عارض هذا بعضهم بأن في بعض الطرق‏:‏ ‏(‏من أدرك سجدة‏)‏، وظنوا أن هذا يتناول ما إذا أدرك السجدة الأولى، وهذا باطل‏.‏ فإن المراد بالسجدة الركعة، كما في حديث ابن عمر‏:‏ حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سجدتين قبل الظهر، وسجدتين بعدها وسجدتين بعد المغرب‏.‏‏.‏‏.‏ إلى آخره‏.‏ وفي اللفظ المشهور‏:‏ ركعتين‏.‏ وكما روي‏:‏ أنه كان يصلي بعد الوتر سجدتين، وهما ركعتان، كما جاء ذلك مفسراً في الحديث الصحيح‏.‏ ومن سجد بعد الوتر سجدتين مجردتين عملاً بهذا، فهو غالط باتفاق الأئمة‏.‏

وأيضاً، فإن الحكم عندهم ليس متعلقاً بإدراك سجدة من السجدتين، فعلم أنهم لم يقولوا بالحديث‏.‏ فعلى هذا، إذا كان المدْرَك أقل من ركعة وكان بعدها جماعة أخري فصلى معهم في جماعة صلاة تامة، فهذا أفضل‏.‏ فإن هذا يكون مصلياً في جماعة؛ بخلاف الأول، وإن كان المدرك ركعة أو كان أقل من ركعة، وقلنا‏:‏ إنه يكون به مدركاً للجماعة، فهنا قد تعارض إدراكه / لهذه الجماعة، وإدراكه للثانية من أولها، فإن إدراك الجماعة من أولها أفضل‏.‏ كما جاء في إدراكها بحدها‏.‏ فإن كانت الجماعتان سواء، فالثانية أفضل‏.‏ وإن تميزت الأولى بكمال الفضيلة، أو كثرة الجمع، أو فضل الإمام، أو كونها الراتبة، فهي في هذه الجهة أفضل، وتلك من جهة إدراكها بحدها أفضل، وقد يترجح هذا تارة وهذا تارة‏.‏ وأما إن قدر أن الثانية أكمل أفعالاً، وإماماً، أو جماعة، فهنا قد ترجحت من وجه آخر‏.‏

ومثل هذه المسألة لم تكن تعرف في السلف إلا إذا كان مدركاً لمسجد آخر، فإنه لم يكن يصلي في المسجد الواحد إمامان راتبان، وكانت الجماعة تتوفر مع الإمام الراتب، ولا ريب أن صلاته مع الإمام الراتب في المسجد جماعة ـ ولو ركعة ـ خير من صلاته في بيته ولو كان جماعة‏.‏ والله أعلم‏.‏

 وسئل عن رجل صلى فرضه، ثم أتى مسجد جماعة فوجدهم يصلون، فهل له أن يصلي مع الجماعة من الفائت‏؟‏

فأجاب‏:‏

إذا صلى الرجـل الفـريضـة ثم أتي مسجداً تقام فيه تلك / الصلاة، فليصلها معهم، سواء كـان عليه فـائتـة أو لم يكـن، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك حيث قـال لرجلين لم يصليا مع الناس‏:‏ فقال‏:‏ ‏(‏ما لكما لم تصليا‏؟‏ ألستما مسلمين‏؟‏‏)‏ فقالا‏:‏ يا رسول الله، صلينا في رحـالنا‏.‏ فقـال‏:‏ ‏(‏إذا صليتما في رحـالكما ثم أتيتـما مسجد جماعة فصليا معهم، فإنها لكما نافلة‏)‏‏.‏

ومن عليه فائتة، فعليه أن يبادر إلى قضائها على الفور، سواء فاتته عمداً أو سهواً، عند جمهور العلماء‏.‏ كمالك وأحمد وأبي حنيفة، وغيرهم‏.‏ وكذلك الراجح في مذهب الشافعي أنها إذا فاتت عمداً، كان قضاؤها واجباً على الفور‏.‏

وإذا صلى مع الجماعة نوي بالثانية معادة، وكانت الأولى فرضاً والثانية نفلا على الصحيح، كما دل عليه هذا الحديث وغيره‏.‏ وقيل‏:‏ الفرض أكملهما‏.‏ وقيل‏:‏ ذلك إلى الله تعالى، والله أعلم‏.‏

 وسئل ـ رَحمه الله ـ عن حديث يزيد بن الأسود قال‏:‏ شهدت حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصليت معه صلاة الصبح في مسجد الخيف، فلما قضي الصلاة وانحرف، فإذا هو برجلين في أخريات القوم لم يصليا، فقال‏:‏ / ‏(‏على بهما‏)‏، فإذا بهما ترعد فرائصهما، فقال‏:‏ ‏(‏ما منعكما أن تصليا معنا‏؟‏‏)‏ فقالا‏:‏ يا رسول الله، إنا كنا صلينا في رحالنا، قال‏:‏ ‏(‏فلا تفعلا، إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم، فإنها لكما نافلة‏)‏‏.‏

والثاني‏:‏ عن سلمان بن سالم قال‏:‏ رأيت عبد الله بن عمر جالساً على البلاط، والناس يصلون، فقلت يا عبد الله، ما لك لا تصلي‏؟‏ فقال‏:‏ إني قد صليت، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ لا تعاد صلاة مرتين، فما الجمع بين هذا، وهذا‏؟‏

فأجاب‏:‏

الحمد الله‏.‏ أما حديث ابن عمر فهو في الإعادة مطلقاً من غير سبب‏.‏ ولا ريب أن هذا منهي عنه، وأنه يكره للرجل أن يقصد إعادة الصلاة من غير سبب يقتضي الإعادة، إذ لو كان مشروعا للصلاة الشرعية عدد معين، كان يمكن الإنسان أن يصلي الظهر مرات، والعصر مرات، ونحو ذلك، ومثل هذا لا ريب في كراهته‏.‏

وأما حديث ابن الأسود‏:‏ فهو إعادة مقيدة بسبب اقتضي الإعادة، وهو قوله‏:‏ ‏(‏إذا صليتما في رحالكما، ثم أتيتما مسجد جماعة، فصليا معهم، فإنها لكما نافلة‏)‏‏.‏ فسبب الإعادة هنا حضور الجماعة الراتبة، ويستحب لمن صلى ثم حضر جماعة راتبة أن يصلي معهم‏.‏

/لكن من العلماء من يستحب الإعادة مطلقاً، كالشافعي وأحمد‏.‏ ومنهم من يستحبها إذا كانت الثانية أكمل، كمالك‏.‏ فإذا أعادها، فالأولى هي الفريضة، عند أحمد وأبي حنيفة، والشافعي في أحد القولين‏.‏ لقوله في هذا الحديث‏:‏ ‏(‏فإنها لكما نافلة‏)‏‏.‏ وكذلك قال في الحديث الصحيح‏:‏ ‏(‏إنه سيكون أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها، فصلوا الصلاة لوقتها، ثم اجعلوا صلاتكم معهم نافلة‏)‏‏.‏ وهذا ـ أيضاً ـ يتضمن إعادتها لسبب، ويتضمن أن الثانية نافلة‏.‏ وقيل‏:‏ الفريضة أكملهما‏.‏ وقيل‏:‏ ذلك إلى الله‏.‏

ومما جاء في الإعادة لسبب‏:‏ الحديث الذي في سنن أبي داود لما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ألا رجل يتصدق على هذا يصلي معه‏)‏‏.‏ فهنا هذا المتصدق قد أعاد الصلاة ليحصل لذلك المصلي فضيلة الجماعة، ثم الإعادة المأمور بها مشروعة عند الشافعي وأحمد ومالك وقت النهي، وعند أبي حنيفة لا تشرع وقت النهي‏.‏

وأما المغرب‏:‏ فهل تعاد على صفتها أم تشفع بركعة أم لا تعاد‏؟‏ على ثلاثة أقوال مشهورة للفقهاء‏.‏

ومما جاء فيه الإعادة لسبب ما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم في بعض صلوات الخوف صلى بهم الصلاة مرتين، صلى بطائفة ركعتين،/ ثم سلم، ثم صلى بطائفة أخري ركعتين ثم سلم، ومثل هذا حديث معاذ بن جبل لما كان يصلي خلف النبي صلى الله عليه وسلم، فهنا إعادة أيضاً، وصلاة مرتين‏.‏

والعلماء متنازعـون في مثل هذا ـ وهي مسألة اقتداء المفترض بالمتنفل ـ على ثلاثة أقوال‏:‏

فقيل‏:‏ لا يجوز كقول أبي حنيفة وأحمد في إحدي الروايات‏.‏ وقيل‏:‏ يجوز كقول الشافعي وأحمد في رواية ثانية‏.‏ وقيل‏:‏ يجوز للحاجة مثل حال الخوف، والحاجة إلى الائتمام بالمتطوع، ولا يجوز لغيرها كرواية ثالثة عن أحمد‏.‏ ويشبه هذا إعادة صلاة الجنازة لمن صلى عليها أولا؛ فإن هذا لا يشرع بغير سبب باتفاق العلماء، بل لو صلى عليها مرة ثانية، ثم حضر من لم يصل‏.‏ فهل يصلي عليها‏؟‏ على قولين للعلماء‏.‏ قيل‏:‏ يصلي عليها، وهو مذهب الشافعي وأحمد، ويصلي عندهما على القبر، لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن غير واحد من الصحابة، أنهـم صلوا على جنازة بعـد مـا صلى عليها غيرهـم‏.‏ وعنـد أبي حنيفة ومالك ينهى عن ذلك، كما يُنْهيَان عن إقامة الجماعة في المسجد مرة بعد مرة، قالوا‏:‏ لأن الفرض يسقط بالصلاة الأولى، فتكون الثانية نافلة، والصلاة على الجنازة لا يتطوع بها‏.‏ وهذا بخلاف من يصلي الفريضة، فإنه يصليها باتفاق المسلمين؛ لأنها واجبة /عليه، وأصحاب الشافعي وأحمد يجيبون بجوابين‏:‏

أحدهما‏:‏ أن الثانية تقع فرضاً عمن فعلها، وكذلك يقولون في سائر فروض الكفايات‏:‏ أن من فعلها أسقط بها فرض نفسه، وإن كان غيره قد فعلها، فهو مخير بين أن يكتفي بإسقاط ذلك، وبين أن يسقط الفرض بفعل نفسه‏.‏ وقيل‏:‏ بل هي نافلة، ويمنعون قول القائل‏:‏ إن صلاة الجنازة لا يتطوع بها، بل قد يتطوع بها، إذا كان هناك سبب يقتضي ذلك‏.‏

وينبني على هذين المأخذين‏:‏ أنه إذا حضر الجنازة من لم يصل أولا فهل لمن صلى عليها أولا أن يصلي معه تبعا كما يفعل مثل هذا في المكتوبة‏؟‏ على وجهين‏.‏ قيل‏:‏ لا يجوز هنا؛ لأن فعله هنا نفل بلا نزاع‏.‏ وهي لا يتنفل بها‏.‏ وقيل‏:‏ بل له الإعادة؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما صلى على القبر، صلى خلفه من كان قد صلى أولا، وهذا أقرب‏.‏ فإن هذه الإعادة بسبب اقتضاه، لا إعادة مقصودة وهذا سائغ في المكتوبة والجنازة‏.‏ والله أعلم‏.‏ وصلي الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيراً‏.‏

/ وسئل شَيخُ الإِسلاَم عمن يجد الصلاة قد أقيمت‏.‏ فأيما أفضل‏:‏ صلاة الفريضة أو يأتي بالسنة ويلحق الإمام ولو في التشهد‏؟‏ وهل ركعتا الفجر سنة للصبح أم لا‏؟‏

فأجاب‏:‏

قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة‏)‏، وفي رواية‏:‏ ‏(‏فلا صلاة إلا التي أقيمت‏)‏، فإذا أقيمت الصلاة فلا يشتغل بتحية المسجد ولا بسنة الفجر، وقد اتفق العلماء على أنه لا يشتغل عنها بتحية المسجد‏.‏

ولكن تنازعوا في سنة الفجر‏:‏ والصواب أنه إذا سمع الإقامة، فلا يصلي السنة لا في البيت ولا في غير بيته‏.‏ بل يقضيها إن شاء بعد الفرض‏.‏ والسنة أن يصلي بعد طلوع الفجر ركعتين سنة، والفريضة ركعتان، وليس بين طلوع الفجر والفريضة سنة إلا ركعتان، والفريضة تسمى صلاة الفجر، وصلاة الغداة، وكذلك السنة تسمى سنة الفجر، وسنة الصبح، وركعتي الفجر، ونحو ذلك‏.‏ والله أعلم‏.‏

/ وسئل عن ‏(‏القراءة خلف الإمام‏)‏‏؟‏

فأجاب‏:‏

الحمد الله‏.‏ للعلماء فيه نزاع واضطراب مع عموم الحاجة إليه‏.‏ وأصول الأقوال ثلاثة‏:‏ طرفان،ووسط‏.‏

فأحد الطرفين‏:‏ أنه لا يقرأ خلف الإمام بحال‏.‏

والثاني‏:‏ أنه يقرأ خلف الإمام بكل حال‏.‏

والثالث‏:‏ وهو قول أكثر السلف، أنه إذا سمع قراءة الإمام أنصت، ولم يقرأ، فإن استماعـه لقـراءة الإمـام خير من قراءته، وإذا لم يسمع قراءته قرأ لنفسه، فإن قراءته خير مـن سكوتـه، فالاسـتماع لقـراءة الإمام أفضل مـن القـراءة، والقـراءة أفضـل مـن السكوت، هذا قول جمهور العلماء كمالك وأحمد بن حنبل وجمهور أصحابهما، وطائفة مـن أصحاب الشافعي، وأبي حنيفـة، وهو القول القديم للشافعي، وقول محمد بن الحسن‏.‏

/وعلى هذا القول‏:‏ فهل القراءة حال مخافتة الإمام بالفاتحة واجبة على المأموم‏؟‏ أو مستحبة‏؟‏ على قولين في مذهب أحمد‏.‏

أشهرهما أنها مستحبة، وهو قول الشافعي في القديم‏.‏ والاستماع حال جهر الإمام‏:‏ هل هو واجب أو مستحب‏؟‏ والقراءة إذا سمع قراءة الإمام هل هي محرمة أو مكروهة‏؟‏ وهل تبطل الصلاة إذا قرأ‏؟‏ على قولين في مذهب أحمد، وغيره‏:‏

أحدهما‏:‏ أن القراءة ـ حينئذ ـ محرمة، وإذا قرأ بطلت صلاته، وهذا أحد الوجهين اللذين حكاهما أبو عبد الله بن حامد، في مذهب أحمد‏.‏

والثاني‏:‏ أن الصلاة لا تبطل بذلك، وهو قول الأكثرين، وهو المشهور من مذهب أحمد‏.‏ ونظير هذا‏:‏ إذا قرأ حال ركوعه وسجوده‏:‏ هل تبطل الصلاة‏؟‏ على وجهين في مذهب أحمد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يقرأ القرآن راكعاً أو ساجداً‏.‏

والذين قالوا‏:‏ يقرأ حال الجهر، والمخافتة، إنما يأمرونه أن يقرأ حال الجهر بالفاتحة خاصة، وما زاد على الفاتحة، فإن المشروع أن يكون فيه مستمعاً لا قارئاً‏.‏

/وهل قراءته للفاتحة مع الجهر واجبة‏.‏ أو مستحبة‏؟‏ على قولين‏:‏

أحدهما‏:‏ أنها واجبة‏.‏ وهو قول الشافعي في الجديد، وقول ابن حزم‏.‏

والثاني‏:‏ أنها مستحبة، وهو قول الأوزاعــي، والليث بـــن سعـد، واختيـار جــدي أبي البركات، ولا سبيل إلى الاحتياط في الخروج من الخلاف في هذه المسألة، كما لا سبيل إلى الخروج من الخلاف في وقت العصر، وفي فسخ الحج، ونحو ذلك من المسائل‏.‏

يتعين في مثل ذلك النظر فيما يوجبه الدليل الشرعي، وذلك أن كثيراً من العلماء يقول‏:‏ صلاة العصر يخرج وقتها إذا صار ظل كل شيء مثليه، كالمشهور من مذهب مالك، والشافعي، وهو إحدي الروايتين عن أحمد‏.‏

وأبو حنيفة يقول‏:‏ حينئذ يدخل وقتها، ولم يتفقوا على وقت تجوز فيه صلاة العصر، بخلاف غيرها فإنه إذا صلى الظهر بعد الزوال بعد مصير ظل كل شيء مثله، سوي ظل الزوال صحت صلاته، والمغرب ـ أيضاً ـ تجزئ باتفاقهم إذا صلى بعد الغروب، والعشاء تجزئ باتفاقهم إذا صلى بعد مغيب الشفق الأبيض، إلى ثلث الليل، والفجر / تجزئ باتفاقهم إذا صلاها بعد طلوع الفجر إلى الإسفار الشديد‏.‏ وأما العصر فهذا يقول‏:‏ تصلي إلى المثلين‏.‏ وهذا يقول‏:‏ لا تصلي إلا بعد المثلين‏.‏ والصحيح أنها تصلي من حين يصير ظل كل شيء مثله إلى اصفرار الشمس، فوقتها أوسع، كما قاله هؤلاء، وهؤلاء‏.‏ وعلى هذا تدل الأحاديث الصحيحة المدنية، وهو قول أبي يوسف، ومحمد بن الحسن وهو الرواية الأخري عن أحمد‏.‏

والمقصود هنا أن من المسائل مسائل لا يمكن أن يعمل فيها بقول يجمع عليه، لكن ـ والله الحمد ـ القول الصحيح عليه دلائل شرعية تبين الحق‏.‏

ومن ذلك فسخ الحج إلى العمرة، فإن الحج الذي اتفق الأمة على جوازه، أن يهل متمتعاً ويحرم بعمرة ابتداء، ويهل قارناً وقد ساق الهدي، فأما إن أفرد أو قرن ولم يسق الهدي، ففي حجه نزاع بين السلف والخلف‏.‏

والمقصود هنا القراءة خلف الإمام فنقول‏:‏ إذا جهر الإمام استمع لقراءته، فإن كان لا يسمع لبعده، فإنه يقرأ في أصح القولين، وهو قول أحمد وغيره، وإن كان لا يسمع لصممه، أو كان يسمع /همهمة الإمام ولا يفقه ما يقول، ففيه قولان في مذهب أحمد، وغيره‏.‏

والأظهر أنه يقرأ؛ لأن الأفضل أن يكون إما مستمعاً، وإما قارئاً، وهذا ليس بمستمع، ولا يحصل له مقصود السماع، فقراءته أفضل من سكوته، فنذكر الدليل على الفصلين، على أنه في حال الجهر يستمع، وأنه في حال المخافتة يقرأ‏.‏

فالدليل على الأول‏:‏ الكتاب والسنة والاعتبار‏:‏

أما الأول‏:‏ فإنه تعالى قال‏:‏ ‏{‏وَإِذَا قُرِىءَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 204‏]‏، وقد استفاض عن السلف أنها نزلت في القراءة في الصلاة، وقال بعضهم‏:‏ في الخطبة، وذكر أحمد بن حنبل الإجماع على أنها نزلت في ذلك، وذكر الإجماع على أنه لا تجب القراءة على المأموم حال الجهر‏.‏

ثم يقول‏:‏قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا قُرِىءَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ‏}‏ لفظ عام، فأما أن يختص القراءة في الصلاة، أو في القراءة في غير الصـلاة، أو يعمهما‏.‏ والثاني باطـل قطعاً؛ لأنه لا يقل أحد من المسلمين أنه يجب الاستماع خـارج الصلاة، ولا يجب في / الصلاة،ولأن استماع المستمع إلى قراءة الإمام الذي يأتم بـه ويجب عليه متابعتـه أولى من استماعه إلى قراءة من يقرأ خارج الصلاة داخلـة في الآيـة، إما على سبيل الخصوص، وإما على سبيل العموم‏.‏ وعلى التقديرين، فالآيـة دالـة على أمـر المأمـوم بالإنصات لقراءة الإمام، وسواء كان أمر إيجاب أو استحباب‏.‏

فالمقصـود حاصـل‏.‏ فـإن المراد أن الاستماع أولى من القراءة، وهذا صريح في دلالة الآية على كل تقدير، والمنازع يسلم أن الاستماع مأمور به دون القراءة، فيما زاد على الفاتحة‏.‏ والآية أمرت بالإنصات إذا قرئ القرآن‏.‏ والفاتحة أم القرآن، وهي التي لابد من قراءتها في كل صلاة، والفاتحة أفضل سور القرآن‏.‏ وهي التي لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في القرآن مثلها، فيمتنع أن يكون المراد بالآية الاستماع إلى غيرها دونها، مع إطلاق لفظ الآية وعمومها، مع أن قراءتها أكثر وأشهر، وهي أفضل من غيرها‏.‏ فإن قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذَا قُرِىءَ الْقُرْآنُ‏}‏ يتناولها، كما يتناول غيرها، وشموله لها أظهر لفظاً ومعني‏.‏ والعادل عن استماعها إلى قرائتها، إنما يعدل لأن قراءتها عنده أفضل من الاستماع، وهذا غلط يخالف النص والإجماع، فإن الكتاب والسنة أمرت المؤتم بالاستماع دون القراءة، والأمة متفقة على أن استماعه لما زاد على الفاتحة أفضل من قراءته لما زاد عليها‏.‏

/فلو كانت القراءة لما يقرأه الإمام أفضل من الاستماع لقراءته، لكان قراءة المأموم أفضل من قراءته لما زاد على الفاتحة، وهذا لم يقل به أحد وإنما نازع من نازع في الفاتحة لظنه أنها واجبة على المأموم مع الجهر، أو مستحبة له حينئذ‏.‏

وجـوابه أن المصلحة الحاصلة له بالقراءة يحصل بالاستماع ما هو أفضل منها، بدليل استماعه لما زاد على الفاتحة، فلولا أنه يحصل له بالاستماع ما هو أفضل من القراءة لكان الأولى أن يفعـل أفضل الأمـرين، وهـو القـراءة، فلما دل الكتاب والسـنة والإجماع على أن الاستماع أفضل له من القراءة، علم أن المستمع يحصل له أفضل مما يحصل للقارئ، وهذا المعني موجود في الفاتحة وغيرها، فالمستمع لقراءة الإمام يحصل له أفضل مما يحصل بالقراءة، وحيئذ، فلا يجوز أن يؤمر بالأدني وينهى عن الأعلى‏.‏

وثبت أنه في هذه الحال قراءة الإمام له قراءة، كما قال ذلك جماهير السلف والخلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان‏.‏ وفي ذلك الحديث المعروف عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة‏)‏‏.‏

وهذا الحديث روي مرسلا، ومسنداً لكن أكثر الأئمة الثقاة رووه مرسلا عن عبد الله بن شداد عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأسنده بعضهم، ورواه ابن ماجه مسنداً?، وهذا المرسل قد عضده / ظاهر القرآن والسنة‏.‏ وقال به جماهير أهل العلم من الصحابة والتابعين، ومرسله من أكابر التابعين، ومثل هذا المرسل يحتج به باتفاق الأئمة الأربعة، وغيرهم، وقد نص الشافعي على جواز الاحتجاج بمثل هذا المرسل‏.‏

فتبين أن الاستماع إلى قراءة الإمام أمر دل عليه القرآن دلالة قاطعة؛ لأن هذا من الأمور الظاهرة التي يحتاج إليها جميع الأمة، فكان بيانها في القرآن مما يحصل به مقصود البيان، وجاءت السنة موافقة للقرآن‏.‏ ففي صحيح مسلم عن أبي موسي الأشعري قال‏:‏ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبنا، فبين لنا سنتنا، وعلمنا صلاتنا، فقال‏:‏ ‏(‏أقيموا صفوفكم، ثم ليؤمكم أحدكم، فإذا كَبَّر فكبروا، وإذا قرأ فأنصتوا‏)‏‏.‏ وهذا من حديث أبي موسي الطويل المشهور‏.‏ لكن بعض الرواة زاد فيه على بعض، فمنهم من لم يذكر قوله‏:‏ ‏(‏وإذا قرأ فأنصتوا‏)‏، ومنهم من ذكرها، وهي زيادة من الثقة، لا تخالف المزيد، بل توافق معناه، ولهذا رواها مسلم في صحيحه‏.‏

فإن الإنصات إلى قراءة القارئ من تمام الائتمام به، فإن من قرأ على قوم لا يستمعون قراءته، لم يكونوا مؤتمين به، وهذا مما يبين حكمة سقوط القراءة على المأموم، فإن متابعته لإمامه مقدمة على غيرها، حتى في الأفعال، فإذا أدركه ساجدًا سجد معه، وإذا أدركه في وتر من صلاته / تشهد عقب الوتر، وهذا لو فعله منفردًا، لم يجز، وإنما فعله لأجل الائتمام، فيدل على أن الائتمام يجب به ما لا يجب على المنفرد، ويسقط به ما يجب على المنفرد‏.‏

وعن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا، وإذا قرأ فأنصتوا‏)‏‏.‏ رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه‏.‏ قيل لمسلم بن الحجاج‏:‏ حديث أبي هريرة صحيح، يعني‏:‏ ‏(‏وإذا قرأ فأنصتوا‏)‏‏.‏ قال‏:‏ هو عندي صحيح‏.‏ فقيل له‏:‏ لما لا تضعه هاهنا‏؟‏ يعني في كتابه، فقال‏:‏ ليس كل شيء عندي صحيح وضعته هاهنا، إنما وضعت هاهنا ما أجمعوا عليه‏.‏

وروى الزهري عن ابن أكيمة الليثي عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف من صلاة جهر فيها، فقال‏:‏ ‏(‏هل قرأ معي أحد منكم آنفًا‏؟‏‏)‏ فقال رجل‏:‏ نعم‏.‏ يا رسول الله، قال‏:‏ ‏(‏إني أقول‏:‏ ما لي أنازع القرآن‏)‏‏.‏ قال‏:‏ فانتهي الناس عن القراءة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما جهر فيه النبي صلى الله عليه وسلم بالقـراءة في الصلوات، حين سمعـوا ذلك مـن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ رواه أحمـد وأبو داود، وابن ماجه، والنسائي، والترمذي، وقال‏:‏ حديث حسن‏.‏ قال أبو داود‏:‏ سمعت محمد بن يحيي بن فارس، يقول‏:‏ قوله‏:‏ فانتهي الناس، من كلام الزهري‏.‏/ وروى عن البخاري نحو ذلك، فقال‏:‏ في الكني من التاريخ، وقال أبو صالح‏:‏ حدثني الليث، حدثني يوسف عن ابن شهاب، سمعت ابن أكيمة الليثي يحدث أن سعيد ابن المسيب سمع أبا هريرة يقول‏:‏ صلىلنا النبي صلى الله عليه وسلم صلاة جهر فيها بالقراءة ثم قال‏:‏ ‏(‏هل قرأ منكم أحد معي‏؟‏‏)‏ قلنا‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏إني أقول‏:‏ ما لي أنازع القرآن‏؟‏‏)‏‏.‏ قال‏:‏ فانتهي الناس عن القراءة فيما جهر الإمام‏.‏ قال الليث‏:‏ حدثني ابن شهاب ولم يقل‏:‏ فانتهي الناس، وقال بعضهم‏:‏ هو قول الزهري‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ هو قول ابن أكيمة، والصحيح أنه قول الزهري‏.‏

وهذا إذا كان من كلام الزهري، فهو من أدل الدلائل على أن الصحابة لم يكونوا يقرؤون في الجهر مع النبي صلى الله عليه وسلم، فإن الزهري من أعلم أهل زمانه، أو أعلم أهل زمانه بالسنة‏.‏ وقراءة الصحابة خلف النبي صلى الله عليه وسلم إذا كانت مشروعة واجبة أو مستحبة، تكون من الأحكام العامة، التي يعرفها عامة الصحابة والتابعين لهم بإحسان، فيكون الزهري من أعلم الناس بها‏.‏ فلو لم يبينها، لاستدل بذلك على انتفائها، فكيف إذا قطع الزهري بأن الصحابة لم يكونوا يقرؤون خلف النبي صلى الله عليه وسلم في الجهر‏.‏

فإن قيل‏:‏ قال البيهقي‏:‏ ابن أكيمة رجل مجهول لم يحدث إلا بهذا الحديث وحده، ولم يحدث عنه غير الزهري‏.‏

/قيل‏:‏ ليس كذلك، بل قد قال أبو حاتم الرازي فيه‏:‏ صحيح الحديث، حديثه مقبول‏.‏ وحكي عن أبي حاتم البستي أنه قال‏:‏ روى عنه الزهري، وسعيد بن أبي هلال، وابن أبيه عمر، وسالم بن عمار بن أكيمة بن عمر‏.‏

وقد روى مالك في موطئه عن وهب بن كيسان أنه سمع جابر بن عبد الله يقول‏:‏ من صلى ركعة لم يقرأ فيها، لم يصل إلا وراء الإمام‏.‏ وروى أيضًا عن نافع أن عبد الله بن عمر كان إذا سئل‏:‏ هل يقرأ خلف الإمام‏؟‏ يقول‏:‏ إذا صلىأحدكم خلف الإمام، تجزئه قراءة الإمام‏.‏ وإذا صلىوحده، فليقرأ‏.‏ قال‏:‏ وكان عبد الله بن عمر، لا يقرأ خلف الإمام‏.‏ وروى مسلم في صحيحه عن عطاء بن يسار أنه سأل زيد بن ثابت عن القراءة مع الإمام، فقال‏:‏ لا قراءة مع الإمام في شيء‏.‏

وروى البيهقي عن أبي وائل، أن رجلاً سأل ابن مسعود عن القراءة خلف الإمام، فقال‏:‏ أنصت للقرآن، فإن في الصلاة شغلا، وسيكفيك ذلك الإمام‏.‏ وابن مسعود وزيد بن ثابت هما فقيها أهل المدينة، وأهل الكوفة من الصحابة، وفي كلاهما تنبيه على أن المانع إنصاته لقراءة الإمام‏.‏

/وكذلك البخاري في كتاب ‏[‏القراءة خلف الإمام‏]‏ عن على بن أبي طالب قال‏:‏ وروى الحارث عن على يسبح في الأخريين، قال‏:‏ ولم يصح‏.‏ وخالفه عبيد الله بن أبي رافع، حدثنا عثمان بن سعيد، سمع عبيد الله بن عمرو، عن إسحاق بن راشد، عن الزهري، عن عبيد الله بن أبي رافع، مولي بني هاشم، حدثه عن على بن أبي طالب‏:‏ إذا لم يجهر الإمام في الصلوات، فاقرأ بأم الكتاب، وسورة أخري في الأوليين، من الظهر والعصر، وفاتحة الكتاب في الأخريين من الظهر والعصر، وفي الآخرة من المغرب، وفي الأخريين من العشاء‏.‏

وأيضًا، ففي إجماع المسلمين على أنه فيما زاد على الفاتحة يؤمر بالاستماع دون القراءة، دليل على أن استماعه لقراءة الإمام خير له من قراءته معه، بل على أنه مأمور بالاستماع دون القراءة مع الإمام‏.‏

وأيضًا، فلو كانت القراءة في الجهر واجبة على المأموم للزم أحد أمرين‏:‏ إما أن يقرأ مع الإمام، وإما أن يجب على الإمام أن يسكت له حتى يقرأ، ولم نعلم نزاعًا بين العلماء أنه لا يجب على الإمام أن يسكت لقراءة المأموم بالفاتحة ولا غيرها، وقراءته معه منهي عنها بالكتاب والسنة‏.‏ فثبت أنه لا تجب عليه القراءة معه في حال الجهر، بل نقول‏:‏ لو كانت قراءة المأموم في حال الجهر والاستماع مستحبة، لاستحب للإمام أن يسكت لقراءة المأموم، ولا يستحب للإمام / السكوت ليقرأ المأموم عند جماهير العلماء، وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد بن حنبل وغيرهم‏.‏

وحجتهم في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يسكت ليقرأ المأمومون، ولا نقل هذا أحد عنه، بل ثبت عنه في الصحيح سكوته بعد التكبير للاستفتاح، وفي السنن أنه كان له سكتتان‏:‏ سكتة في أول القراءة، وسكتة بعد الفراغ من القراءة، وهي سكتة لطيفة للفصل لا تتسع لقراءة الفاتحة‏.‏ وقد روى أن هذه السكتة كانت بعد الفاتحة، ولم يقل أحد‏:‏ إنه كان له ثلاث سكتات، ولا أربع سكتات، فمن نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث سكتات أو أربع فقد قال قولاً لم ينقله عن أحد من المسلمين، والسكتة التي عقب قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ الضَّالينَ‏}‏ من جنس السكتات التي عند رؤوس الآي‏.‏ ومثل هذا لا يسمي سكوتًا؛ ولهذا لم يقل أحد من العلماء‏:‏ إنه يقرأ في مثل هذا‏.‏

وكان بعض من أدركنا من أصحابنا يقرأ عقب السكوت عند رؤوس الآي‏.‏ فإذا قال الإمام‏:‏ ‏{‏الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏، قال‏:‏ ‏{‏الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏، وإذا قال‏:‏ ‏{‏إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏}‏، قال‏:‏ ‏{‏إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏}‏، وهذا لم يقله أحد من العلماء‏.‏

/وقد اختلف العلماء في سكوت الإمام على ثلاثة أقوال‏:‏ فقيل‏:‏ لا سكوت في الصلاة بحال، وهو قول مالك‏.‏ وقيل‏:‏ فيها سكتة واحدة للاستفتاح، كقول أبي حنيفة‏.‏ وقيل فيها‏:‏ سكتتان، وهو قول الشافعي، وأحمد، وغيرهما لحديث سمرة بن جندب‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان له سكتتان‏:‏ سكتة حين يفتتح الصلاة، وسكتة إذا فرغ من السورة الثانية‏.‏ قبل أن يركع، فذكر ذلك لعمران بن حصين، فقال‏:‏ كذب سمرة‏.‏ فكتب في ذلك إلى المدينة إلى أبي بن كعب، فقال‏:‏ صدق سمرة‏.‏ رواه أحمد، واللفظ له وأبو داود وابن ماجه، والترمذي، وقال‏:‏ حديث حسن‏.‏

وفي رواية أبي داود‏:‏ ‏(‏سكتة إذا كبر، وسكتة إذا فرغ من ‏{‏غَيرِ المَغضُوبِ عليهمْ وَلاَ الضَّالينَ‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏7‏]‏ وأحمد رجح الرواية الأولى، واستحب السكتة الثانية؛ لأجل الفصل‏.‏ ولم يستحب أحمد أن يسكت الإمام لقراءة المأموم، ولكن بعض أصحابه استحب ذلك‏.‏ ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم لو كان يسكت سكتة تتسع لقراءة الفاتحة، لكان هذا مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله، فلما لم ينقل هذا أحد، علم أنه لم يكن‏.‏

والسكتة الثانية في حديث سمرة قد نفاها عمران بن حصين، وذلك أنها سكتة يسيرة، قد لا ينضبط مثلها، وقد روى أنها بعد / الفاتحة‏.‏ ومعلوم أنه لم يسكت إلا سكتتين، فعلم أن إحداهما طويلة، والأخري بكل حال لم تكن طويلة متسعة لقراءة الفاتحة‏.‏

وأيضًا، فلو كان الصحابة كلهم يقرؤون الفاتحة خلفه إما في السكتة الأولى، وإما في الثانية، لكان هذا مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله، فكيف ولم ينقل هذا أحد عن أحد من الصحابة أنهم كانوا في السكتة الثانية خلفه يقرؤون الفاتحة، مع أن ذلك لو كان مشروعًا، لكان الصحابة أحق الناس بعلمه، وعمله، فعلم أنه بدعة‏.‏

وأيضًا، فالمقصود بالجهر استماع المأمومين، ولهذا يؤمِّنون على قراءة الإمام في الجهر دون السر، فإذا كانوا مشغولين عنه بالقراءة فقد أمر أن يقرأ على قوم لا يستمعون لقراءتة، وهو بمنزلة أن يحدث من لم يستمع لحديثه، ويخطب من لم يستمع لخطبته، وهذا سفه تنزه عنه الشريعة‏.‏ ولهذا روى في الحديث‏:‏ ‏(‏مثل الذي يتكلم والإمام يخطب كمثل الحمار يحمل أسفارًا‏)‏‏.‏ فهكذا إذا كان يقرأ والإمام يقرأ عليه‏.‏